فصل: فصل التذلل إلى الله تعالى

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صيد الخاطر **


  فصل التذلل إلى الله تعالى

ينبغي للعاقل أن يلازم باب مولاه على كل حال وأن يتعلق بذيل فضله إن عصى وإن أطاع‏.‏

وليكن له أنس في خلوته به فإن وقعت وحشة فليجتهد في رفع الموحش كما قال الشاعر‏:‏ أمستوحش أنت مما جني - ت فأحسن إذا شئت واستأنس فإن رأى نفسه مائلاً إلى الدنيا طلبها منه أو إلى الآخرة سأله التوفيق للعمل لها‏.‏

فإن خاف ضرر ما يرومه من الدنيا سأل الله إصلاح قلبه وطب مرضه فإنه إذا صلح لم يطلب ما يؤذيه‏.‏

ومن كان هكذا كان في العيش الرغد غير أن من ضرورة هذه الحال ملازمة التقوى فإنه لا يصلح الأنس إلى بها‏.‏

وقد كان أرباب التقوى يتشاغلون عن كل شيء إلا عن اللجأ والسؤال‏.‏

وفي الخبر‏:‏ إن قتيبة بن مسلم لما صاف الترك هاله أمرهم فقال‏:‏ أين محمد بن واسع فقيل‏:‏ هو في أقصى الميمنة جانح على سية قوسه يومىء بإصبعه نحو السماء فقال قتيبة‏:‏ تلك الأصبع الفاردة أحب إلي من مائة ألف سيف شهير وسنان طرير فلما فتح عليهم قال له‏:‏ ما فصل الثرثرة بالنعم ينبغي لمن تظاهرت نعم الله عز وجل عليه أن يظهر منها ما يبين أثرها ولا يكشف جملتها وهذا من أعظم لذات الدنيا التي يأمر الحزم بتركها فإن العين حق‏.‏

وإني تفقدت النعم فرأيت إظهارها حلواً عند النفس إلا أنها أظهرت لوديد لم يؤمن تشعث باطنه بالغيظ‏.‏

وإن أظهر لعدو فالظاهر إصابته لموضع الحسد إلا أنني رأيت شر الحسود كاللازم فإنه في حال البلاء يتشفى وفي حال النعم يصيب بالعين‏.‏

ولعمري إن المنعم عليه يشتهي غيظ حسوده ولكنه لا يؤمن أن يخاطر بنعمته فإن الغالب إصابة الحاسد لها بالعين فلا يساوي الالتذاذ بإظهار ما غيظ به ما أفسدت عينه بإصابتها‏.‏

وكتمان الأمور في كل حال فعل الحازم فإنه إن كشف مقدار سنه استهرموه إن كان كبيراً واحتقروه إن كان صغيراً‏.‏

وإن كشف ما يعتقده ناصبه الأضداد بالعداوة‏:‏ وإن كشف قدر ماله استحقروه إن كان قليلاً وحسدوه إن كان كثيراً وفي هذه الثلاثة يقول احفظ لسانك لا تبح بثلاثة سن ومال ما استطعت ومذهب فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة بمموّه وممخرق ومكذب وقس على ما ذكرت ما لم أذكره ولا تكن من المذاييع الغر الذين لا يحملون أسرارهم حتى يفشوها إلى من لا يصلح‏.‏

ورب كلمة جرى بها اللسان هلك بها الإنسان‏.‏

  فصل تتابع العثرات

رأيت كل من يعثر بشيء أو يزلق في مطر يلتفت إلى ما عثر به فينظر إليه طبعاً موضوعاً في الخلق‏.‏

إما ليحذر منه إن جاز عليه مرة أخرى أو لينظر - مع احترازه وفهمه - كيف فاته التحرز من مثل هذا‏.‏

فأخذت من ذلك إشارة وقلت‏:‏ يا من عثر مراراً هلا أبصرت ما الذي أعثرك فاحترزت من مثله أو قبحت لنفسك مع حزمها تلك الواقعة‏.‏

فإن الغالب ممن يلتفت أن معنى التفاته كيف عثر مثلي مع احترازه بمثل ما أرى‏.‏

كيف غرك زخرف تعلم بعقلك باطنه وترى بعين فكرك مآله كيف آثرت فانياً على باق كيف بعت بوكس كيف اخترت لذة رقدة على انتباه معاملة‏.‏

آه لك لقد اشتريت بما بعت أحمال ندم لا يقلها ظهر وتنكيس رأس أمسى بعيد الرفع ودموع حزن على قبح فعل ما لمددها انقطاع‏.‏

وأقبح الكل أن يقال لك‏:‏ بماذا ومن أجل ماذا وهذا على ماذا يا من قلب الغرور عليه الصنجة ووزن له والميزان راكب‏.‏

  فصل ثمرة التقوى

تأملت قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فَمنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى ‏"‏‏.‏

قال المفسرون‏:‏ هداي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابي‏.‏

فوجدته على الحقيقة أن كل من اتبع القرآن والسنة وعمل بما فيهما فقد سلم من الضلال بلا شك وارتفع في حقه شقاء الآخرة بلا شك إذا مات على ذلك‏.‏

وكذلك شقاء الدنيا فلا يشقى أصلاً ويبين هذا قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعلْ لَهُ مَخْرجاً ‏"‏‏.‏

فإن رأيته في شدة فله من اليقين بالجزاء ما يصير الصاب عنده عسلاً‏.‏

وإلا غلب طيب العيش في كل حال‏.‏

فأما الملازم لطريق التقوى فلا آفة تطرقه ولا بلية تنزل به هذا هو الأغلب فإن وجد من تطرقه البلايا مع التقوى فذاك في الأغلب لتقدم ذنب يجازي عليه فإن قدرنا عدم الذنب‏.‏

فذاك لإدخال ذهب صبره كير البلاء حتى يخرج تبراً أحمر فهو يرى عذوبة العذاب‏.‏

لأنه يشاهد المبتلي في البلاء الألم‏.‏

قال الشبلي‏:‏ أحبك الناس لنعمائك وأنا أحبك لبلائك فصل الاستكانة للمعصية لا ينال لذة المعاصي إلا سكران بالغفلة‏.‏

فأما المؤمن فإنه لا يلتذ لأنه عند التذاذه يقف بإزائه علم التحريم وحذر العقوبة‏.‏

فإن قويت معرفته رأى بعين علمه قرب الناهي فيتنغص عيشه في حال التذاذه‏.‏

فإن غلب سكر الهوى كان القلب متنغصاً بهذه المراقبات وإن كان الطبع في شهوته‏.‏

وما هي إلا لحظة ثم خذ من غريم ندم ملازم وبكاء متواصل وأسف على ما كان مع طول الزمان‏.‏

حتى أنه لو تيقن العفو وقف بإزائه حذر العتاب فأف للذنوب ما أقبح آثارها وما أسوأ أخبارها ولا كانت شهوة لا تنال إلا بمقدار قوة الغفلة‏.‏

  فصل زهد يهدم الدين والدنيا

بكرت يوماً أطلب الخلوة إلى جامع الرصافة فجعلت أجول وحدي وأتفكر في ذلك المكان ومن كان به من العلماء والصالحين‏.‏

ورأيت أقواماً قد جاوروا فيه فسألت أحدهم‏:‏ منذ كم أنت ها هنا فأومأ إلى قريب من أربعين سنة‏.‏

فرأيته في بيت كثير الدرن والوسخ‏.‏

وجعلت أتفكر في حبسه لنفسه عن النكاح هذه المدة فأخذت النفس تحسن ذلك وتذم الدنيا والاغترار بها‏.‏

فأقبل العلم ينكر على النفس وخضه الفهم لحقائق الأمور وموضوع الشرع يقوي ما قال العلم‏.‏

فينحل من ذلك أن قلت للنفس‏:‏ اعلمي أن هؤلاء على ضربين‏.‏

منهم من يجاهد نفسه في الصبر على هذه الأحوال فتفوته فضائل المخالطة لأهل العلم والعمل وطلب الولد ونفع الخلق وانتفاع نفسه بمجالسة أهل الفهم فيحدث له من نفسه حالة تشابه وربما يبس الطبع وساء الخلق وربما حدث من حبس مائه المحتقن سمية أفسدت بدنه وعقله وربما أورثته الخلوة وسوسة وربما ظن أنه من الأولياء واستغنى بما يعرفه وربما خيل له الشيطان أشياء من الخيالات وهو يعدها كرامات وربما ظن أن الذي هو فيه الغاية ولا يدري أنه إلى الكراهة أقرب‏.‏

فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ نهى أن يبيت الرجل وحده وهؤلاء كل منهم يبيت وحده ونهى عن التبتل وهذا تبتل ونهى عن الرهبانية وهذا من خفي خدع إبليس التي يوقع بها في ورطات الضلال بألطف وجه وأخفاه‏.‏

والضرب الثاني‏:‏ مشايخ قد فنوا فانقطعوا ضرورة إذ ليس لأحدهم مأوى فهم في مقام الزمنى‏.‏

وإن كان الضرب الأول قد قطعوا حبل نفوسهم في العلم والعمل والكسب وتعلقت هممهم بفتوح يطرق عليهم الباب فرضوا بالعمى بعد البصر وبالزمن بعد الإطلاق‏.‏

فقالت لي النفس‏:‏ لا أرضى هذا الذي تقوله فإنك إنما تميل إلى إيثار نكاح المستحسنات والمطاعم المشتهيات‏.‏

فإذا لم تكن من أهل التعبد فلا تطعن فيهم‏.‏

فقلت لها‏:‏ إن فهمت حدثتك وإن كنت تقلدين صور الأحوال فلا فهم لك‏.‏

أما المستحسنات فإن المقصود من النكاح أشياء منها طلب الولد ومنها شفاء النفس بإخراج الفضلة المؤذية وكمال خروجها لا يكون إلا بوجود المستحسن‏.‏

واعتبر هذا بالوطء دون الفرج فإنه يخرج من الفضلات ما لا يخرج بالوطء في الفرج وبتمام خروج تلك الفضلة تفرغ النفس عن شواغلها فتدري أين هي‏.‏

كما نأمر القاضي بالأكل قبل الحكم وننهاه عن الحكم وهو غضبان أو حاقن‏.‏

وبكمال بلوغ هذا الغرض يكون كمال الولد لتمام النطفة التي تخلق منها‏.‏

ثم للنفس حظ فهو يستو فيه استيفاء الناقة حظها من العلف في السفر وذلك يعين على سيرها‏.‏

وأما المطاعم فالجاهل من يطلبها لذاتها أو لنفس لذاتها‏.‏

وإنما المراد إصلاح الناقة لجمع هممها ونيل مرادها من غرضها الصارف لها عن الفكر في هواها‏.‏

وإذا تأملت حال الشرب الأول رأيت من هذا عجباً فإن النبي صلى الله عليه وسلم اختار لنفسه عائشة رضي الله عنها وكانت مستحسنة ورأى زينب فاستحسنها فتزوجها وكذلك اختار صفية وكان إذا وصفت له امرأة بعث يخطبها‏.‏

وكان لعلي رضي الله عنه أربع حرائر وسبع عشرة سرية مات عنهن‏.‏

وقبل هذه الأمة فقد كان لداود عليه السلام مائة امرأة ولسليمان عليه السلام ألف امرأة فمن ادعى خللاً في هذه الطرق أو أن هؤلاء آثروا هواهم وأنفقوا بضائع العمر في هذه الأغراض وغيرها أفضل‏.‏

فقد ادعى على الكاملين النقصان وإنما هو الناقص في فهمه لا هم‏.‏

وقد كان سفيان الثوري إذا سافر ففي سفرته حمل مشوية وفالوذج وكان حسن المطعم وكان يقول إن الدابة إذا لم تحسن إليها لم تعمل‏.‏

وهذه الفنون التي أشرت إليها أن قصدت للحاجة إليها أو لقضاء وطر النفس منها أو لبلوغ الأغراض الدينية والدنيوية منها فكله قصد صحيح لا يعكر عليه من يقوم ويقعد في ركعات لا يفهم معناها وفي تسبيحات أكثر ألفاظها ردية‏.‏

كلا ليس إلا العلم الذي هو أفضل الصفات وأشرف العبادات وهو الآمر بالمصالح والناطق بالنصائح‏.‏

ثم منفعة العلم معروفة وزهد الزاهد لا يتعدى عتبة بابه وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس‏.‏

ثم اعتبر فضل الرسل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏

والجوارح على التي لا تصيد‏.‏

والطين الذي يعمل منه ما ينتفع به على الطين في المطلع‏.‏

وغاية العلماء تصرفهم بالعلم في المباح وأكثر المتزهدين جهلة يستعبدهم تقبيل اليد لأجل تركهم ما أبيح‏.‏

فكم فوتت العزلة علماً يصلح به أصل الدين وكم أوقعت في بلية هلك بها الدين وإنما عزلة العالم عن الشر فحسب والله الموفق‏.‏

 فصل نهاية العصاة

ينبغي لكل ذي لب وفطنة أن يحذر عواقب المعاصي‏.‏

فإنه ليس بين الآدمي وبين الله تعالى قرابة ولا رحم وإنما هو قائم بالقسط حاكم بالعدل‏.‏

وإن كان حلمه يسع الذنوب إلا أنه شاء عفا فعفا كل كثيف من الذنوب وإذا شاء أخذ وأخذ باليسير فالحذر الحذر‏.‏

ولقد رأيت أقواماً من المترفين كانوا يتقلبون في الظلم والمعاصي الباطنة والظاهرة فتعبوا من حيث لم يحتسبوا‏.‏

فقلعت أصولهم‏.‏

ونقض ما بنوا من قواعد أحكموها لذراريهم‏.‏

وما كان ذلك إلا أنهم أهملوا جانب الحق عز وجل وظنوا أن ما يفعلونه من خير يقاوم ما يجري من شر فمالت سفينة ظنونهم‏.‏

فدخلها من ماء الكيد ما أغرقهم‏.‏

ورأيت أقواماً من المنتسبين إلى العلم أهملوا نظر الحق عز وجل إليهم في الخلوات‏.‏

فمحا محاسن ذكرهم في الجلوات‏.‏

فكانوا موجودين كالمعدومين لا حلاوة لرؤيتهم ولا قلب يحن إلى لقائهم‏.‏

فالله الله في مراقبة الحق عز وجل‏.‏

فإن ميزان عدله تبين فيه الذرة وجزاؤه مرصد للمخطىء ولو بعد حين‏.‏

وربما ظن أنه العفو - وإنما هو إمهال - وللذنوب عواقب سيئة‏.‏

فالله الله الخلوات‏.‏

الخلوات‏.‏

البواطن البواطن‏.‏

النيات النيات‏.‏

فإن عليكم من الله عيناً ناظرة‏.‏

وإياكم والاغترار بحلمه وكرمه فكم قد استدرج‏.‏

وكونوا على مراقبة الخطايا مجتهدين في محوها‏.‏

وما شيء ينفع كالتضرع مع الحمية عن الخطايا فلعله‏.‏

‏.‏

‏.‏

وهذا فصل إذا تأمله المعامل لله تعالى نفعه‏.‏

ولقد قال بعض المراقبين لله تعالى‏:‏ قدرت على لذة هي غاية وليست بكبيرة‏.‏

فقلت لنفسي‏:‏ إن غلبت هذه فأنت أنت وإذا أتيت هذه فمن أنت‏.‏

وذكرتها حالة أقوام كانوا يفسحون لأنفسهم في مسامحة كيف انطوت أذكارهم وتمكن الإعراض عنهم‏.‏

فارعوت ورجعت عما همت به‏.‏

والله الموفق‏.‏

  فصل هذه ليست صغائر

كثير من الناس يتسامحون في أمور يظنونها قريبة‏.‏

وهي تقدح في الأصول كاستعارة طلاب العلم جزءاً لا يردونه‏.‏

وقصد الدخول على من يأكل ليؤكل معه والتسامح بعرض العدو التذاذاً بذلك واستصغاراً لمثل هذا الذنب‏.‏

وإطلاق البصر في المحرم استهانة بتلك الخطيئة‏.‏

وأهون ما يصنع ذلك بصاحبه أن يحطه من مرتبة المتميزين بين الناس ومن مقام رفعة القدر عند الحق‏.‏

أو فتوى من لا يعلم لئلا يقال‏:‏ هو جاهل ونحو ذلك مما يظنه صغيراً وهو عظيم‏.‏

وربما قيل له بلسان الحال‏:‏ يا من اؤتمن على أمر يسير فخان‏.‏

كيف ترجو بتدليك رضا الديان‏.‏

فالله الله اسمعوا ممن قد جرب كونوا على مراقبة‏.‏

وانظروا في العواقب‏.‏

واعرفوا عظمة الناهي‏.‏

واحذروا من نفخة تحتقر وشررة تستصغر فربما أحرقت بلداً‏.‏

وهذا الذي أشرت إليه يسير يدل على كثير وأنموذج يعرف باقي المحقرات من الذنوب‏.‏

والعلم والمراقبة يعرفانك ما أخللت بذكره ويعلمانك إن تلمحت بعين البصيرة أثر شؤم فعله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

  فصل كيف تدعو وماذا تبغي رأيت من نفسي عجباً

تسأل الله عز وجل حاجاتها وتنسي جناياتها‏.‏

فقلت‏:‏ يا نفس السوء أو مثلك ينطق‏.‏

فإن نطق فينبغي أن يكون السؤال العفو فحسب‏.‏

فقالت‏:‏ فممن أطلب مراداتي قلت‏:‏ ما أمنعك من طلب المراد‏.‏

إنما أقول حققي التوبة وانطقي‏.‏

كما نقول في العاصي بسفره إذا اضطر إلى الميتة لا يجوز له أن يأكل فإن قيل لنا‏:‏ أفيموت‏!‏ قلنا لا بل يتوب ويأكل‏.‏

فالله الله من جراءة على طلب الأغراض مع نسيان ما تقدم من الذنوب التي توجب تنكيس الرأس ولئن تشاغلت بإصلاح ما مضى والندم عليه جاءتك مراداتك‏.‏

كما روي‏:‏ من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين‏.‏

وقد كان بشر الحافي يبسط يديه للسؤال ثم يسبلهما ويقول‏:‏ مثلي لا يسأل وما أبقت الذنوب لي وجهاً‏.‏

وهذا يختص ببشر لقوة معرفته كان وقت السؤال كالمخاطب كفاحاً فاستحي للزلل‏.‏

فأما أهل الغفلة فسؤالهم على بعد فافهم ما ذكرته وتشاغل بالتوبة من الزلل ثم العجب من سؤالاتك فإنك لا تكاد تسأل مهما من الدنيا بل فضول العيش‏.‏

ولا تسأل صلاح القلب والدين مثل ما تسأل صلاح الدنيا‏.‏

فاعقل أمرك فإنك من الانبساط والغفلة على شفا جرف‏.‏

وليكن حزنك على زلاتك شاغلاً لك من مراداتك فقد كان الحسن البصري شديد الخوف فلما قيل له في ذلك قال‏:‏ وما يؤمنني أن يكون اطلع على بعض ذنوبي فقال اذهب لا غفرت لك‏.‏

أعجب العجب دعوى المعرفة مع البعد عن العرفان‏.‏

بالله ما عرفه إلا من خاف منه فأما المطمئن فليس من أهل المعرفة‏.‏

وفي المتزهدين أهل تغفيل يكاد أحدهم يوطن نفسه على أنه ولي محبوب ومقبول‏.‏

وربما توالت عليه ألطاف ظنها كرامات ونسي الاستدراج الذي لفت مساكنته الألطاف‏.‏

وربما احتقر غيره وظن أن محلته محفوظة به تغره ركيعات ينصب فيها أو عبادة ينصب بها‏.‏

وربما ظن أنه قطب الأرض وأنه لا ينال مقامه بعده أحد‏.‏

وكأنه ما علم أنه بينما موسى مكالم نبىء يوشع‏.‏

وبينا زكريا عليه السلام مجاب الدعوة نشر المنشار‏.‏

وبينا يحيى عليه السلام يوصف بأنه سيد سلط عليه كافر احتز رأسه‏.‏

وبينا بلعام معه الاسم الأعظم صار مثله كمثل الكلب‏.‏

وبينا الشريعة يعمل بها نسخت وبطل حكمها‏.‏

وبينا البدن معمور خرب وسلط البلى عليه‏.‏

وبينا العالم يدأب حتى ينال مرتبة يعتقدها نشأ طفل في زمانه ترقى إلى سبر عيوبه وغلطه‏.‏

وكم من متكلم يقول‏:‏ ما مثلي‏!‏‏!‏ لو عاش فسمع ما حدث بعده من الفصاحة عد نفسه أخرس‏.‏

هذا وعظ ابن السماك وابن عمار وابن سمعون لا يصلح لبعض تلامذتنا ولا يرضاه‏.‏

فكيف يعجب من ينفق شيئاً‏.‏

وربما أتى بعدنا من لا يعدنا‏.‏

فالله الله من مساكنة مسكن ومخالفة مقام‏.‏

وليكن المتيقظ على انزعاج محتقراً للكثير من طاعاته خائفاً على نفسه من تقلباته ونفوذ الأقدار فيه‏.‏

واعلم أن تلمح هذه الأشياء التي أشرت إليها بضرب عنق العجب ويذهب بطر الكبر‏.‏

  فصل الإعداد للنهاية باليقين

من عاش مع الله عز وجل طيب النفس في زمن السلامة خفت عليه زمن البلاء فهناك المحك‏.‏

إن الله عز وجل بينا يبني نقض وبينا يعطي سلب فيطيب النفس والرضا هناك بين‏.‏

فأما من تواصلت لديه النعم فإنه يكون طيب القلب لتواصلها فإذا مسته نفحة من البلاء قال الحسن البصري‏:‏ كانوا يتساوون في وقت النعم فإذا نزل البلاء تباينوا‏.‏

فالعاقل من أعد ذخراً وحصل زاداً وازداد من العدد للقاء حرب البلاء‏.‏

ولا بد من لقاء البلاء ولو لم يكن إلا عند صرعة الموت فإنها إن نزلت والعياذ بالله فلم تجد معرفة توجب الرضى أو الصبر أخرجت إلى الكفر‏.‏

ولقد سمعت من كنت أظن فيه كثرة الخير وهو يقول في ليالي موته‏:‏ ربي هو ذا يظلمني فلم أزل منزعجاً مهتماً بتحصيل عدة ألقى بها ذلك اليوم‏.‏

كيف وقد روى أن الشيطان يقول لأعوانه في تلك الساعة‏:‏ عليكم بهذا فإن فاتكم لم تقدروا عليه‏.‏

وأي قلب يثبت عند إمساك النفس والأخذ بالكظم ونزع النفس والعلم بمفارقة المحبوبات إلى ما لا يدري ما هو وليس في ظاهره إلا القبر والبلاء‏.‏

فنسأل الله عز وجل يقيناً يقيناً شر ذلك اليوم لعلنا نصبر للقضاء أو نرضى به‏.‏

ونرغب إلى مالك الأمور في أن يهب لنا من فواضل نعمه على أحبابه حتى يكون لقاؤه أحب إلينا من بقائنا وتفويضنا إلى تقديره أشهى لنا من اختيارنا‏.‏

ونعوذ بالله من اعتقاد الكمال لتدبيرنا حتى إذا انعكس علينا أمر عدنا إلى القدر بالتسخط‏.‏

  فصل سعادة العارفين

ليس في الدنيا ولا في الآخرة أطيب عيشاً من العارفين بالله عز وجل فإن العارف به مستأنس به في خلوته‏.‏

فإن عمت نعمة علم من أهداها وإن مراً مذاقه في فيه لمعرفته بالمبتلى‏.‏

وإن سأل فتعوق مقصوده صار مراده ما جرى به القدر علماً منه بالمصلحة بعد يقينه بالحكمة وثقته بحسن التدبير‏.‏

وصفة العارف أن قلبه مراقب لمعروفه قائم بين يديه ناظر بعين اليقين إليه فقد سرى من بركة معرفته إلى الجوارح ما هذبها‏.‏

فإن نطقت فلم أنطق بغيركم وإن سكت فأنتم عقد إضماري إذا تسلط على العارف أذى أعرض نظره عن السبب ولم ير سوى المسبب فهو في أطيب عيش معه‏.‏

إن سكت تفكر في إقامة حقه وإن نطق تكلم بما يرضيه لا يسكن قلبه إلى زوجة ولا إلى ولد ولا يتشبث بذيل محبة أحد‏.‏

فهذا الذي لا هم عليه في الدنيا ولا غم عنده وقت الرحيل عنها‏.‏

ولا وحشة له في القبر ولا خوف عليه يوم المحشر‏.‏

فأما من عدم المعرفة فإنه معثر لا يزال يضج من البلاء لأنه يعرف المبتلى‏.‏

ويستوحش لفقد غرضه لأنه لا يعرف المصلحة‏.‏

ويستأنس بجنسه لأنه لا معرفة بينه وبين ربه‏.‏

ويخاف من الرحيل لأنه لا زاد له ولا معرفة بالطريق‏.‏

وكم من عالم وزاهد لم يرزقا من المعرفة إلا ما رزقه العامي البطال وربما زاد عليهما‏.‏

وكم من عامي رزق منها ما لم يرزقاه مع اجتهادهما‏.‏

وإنما هي مواهب وأقسام‏.‏

‏"‏ ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء ‏"‏‏.‏

  فصل حلاوة الكفاح في سبيل الحق

بالله عليك يا مرفوع القدر بالتقوى لا تبع عزها بذل المعاصي‏.‏

وصابر عطش الهوى في هجير المشتهى وإن أمض وأرمض‏.‏

فإذا بلغت النهاية من الصبر فاحتكم وقل فهو مقام من لو أقسم على الله لأبره‏.‏

ولولا جد أنس بن النضر في ترك هواه وقد سمعت من آثار عزمته‏:‏ لئن أشهدني الله مشهداً ليرين الله ما أصنع فأقبل يوم أحد يقاتل حتى قتل فلم يعرف إلا ببنانه فلولا هذا العزم ما كان انبساط وجهه يوم حلف والله لا تكسر سن الربيع‏.‏

بالله عليك تذوق حلاوة الكف عن المنهى فإنها شجرة تثمر عز الدنيا‏.‏

وشرف الآخرة‏.‏

ومتى اشتد عطشك إلى ما تهوى فابسط أنامل الرجاء إلى من عنده الري الكامل‏.‏

وقل قد عيل صبر الطبع في سنيه العجاف فعجل لي العام والذي فيه أغاث وأعصر‏.‏

بالله عليك تفكر فيمن قطع أكثر العمر في التقوى والطاعة ثم عرضت له فتنة في الوقت الأخير كيف نطح مركبه الجرف فغرق وقت الصعود‏.‏

أف والله للدنيا لا بل للجنة إن أوجب نيلها إعراض الحبيب‏.‏

إنما نسب العامي باسمه واسم أبيه فأما ذوو الأقدار فالألقاب قبل الأنساب‏.‏

قل لي‏:‏ من أنت وما عملك وإلى أي مقام ارتفع قدرك يا من لا يصبر لحظة عما يشتهي‏.‏

بالله عليك أتدري من الرجل‏.‏

الرجل والله من إذا خلا بما يحب من المحرم وقدر عليه وتقلل عطشاً إليه نظر إلى نظر الحق كأنك لا تترك لنا إلا ما لا تشتهي أو بما لا تصدق الشهوة فيه أو ما لا تقدر عليه‏.‏

‏.‏

كذا والله عادتك إذا تصدقت أعطيت كسرة لا تصلح لك أو في جماعة يمدحونك‏.‏

هيهات والله لا نلت ولايتنا حتى تكون معاملتك لنا خالصة‏.‏

تبذل أطايبك‏.‏

وتترك مشتهياتك وتصبر على مكروهاتك‏.‏

علماً منك تدخر ثوابك لدينا إن كنت معاملاً بأنك أجير وما غربت الشمس‏.‏

فإن كنت محباً رأيت ذلك قليلاً في جنب رضى حبيبك عنك‏.‏

وما كلامنا مع الثالث‏.‏

‏.‏

‏!‏‏!‏‏.‏

  فصل أسرار الحكمة

رأيت في العقل نوع منازعة للتطلع إلى معرفة جميع حكم الحق عز وجل في حكمه‏.‏

وربما لم يبين له شيء منها - مثل النقض بعد البناء - فيقف متحيراً‏.‏

وربما انتهز الشيطان تلك الفرصة فوسوس إليه‏:‏ أين الحكمة من هذا‏.‏

فقلت له احذر أن تخدع يا مسكين إنه قد ثبت بالدليل القاطع فيما رأيت من إتقان الصنائع مبلغ حكمة الصانع فإن خفي عليك بعض الحكم فلضعف إدراكك‏.‏

يكفيك الجمل وإياك إياك أن تتعرض لما يخفى عليك‏.‏

فإنك بعض موضوعاته وذرة من مصنوعاته‏.‏

فكيف تتحكم على من صدرت عنه‏.‏

ثم قد ثبتت عندك حكمته وحكمه وملكه فأعمل آلتك على قدر قوتك في مطالعة ما يمكن من الحكم فإنه سيورثك الدهش‏.‏

وغمض عما يخفى عليك فحقيق بذي البصر الضعيف ألا يقاوي نور الشمس‏.‏

فصل سياسة النفس أعجب الأشياء مجاهدة النفس‏.‏

لأنها تحتاج إلى صناعة عجيبة‏.‏

فإن أقواماً أطلقوها فيما تحب فأوقعتهم فيما كرهوا‏.‏

وإن أقواماً بالغوا في خلافها حتى منعوها حقها وظلموها‏.‏

وأثر ظلمهم لها في تعبداتهم فمنهم من أساء غذاءها فأثر ذلك ضعف بدنها عن إقامة واجبها‏.‏

ومنهم من أفردها في خلوة أثمرت الوحشة من الناس وآلت إلى ترك فرض أو فضل من عيادة مريض أو بر والدة‏.‏

وإنما الحازم من تعلم منه نفسه الجد وحفظ الأصول‏.‏

فإذا فسح لها في مباح لم تتجاسر أن تتعداه‏.‏

فيكون معها كالملك إذا مازح بعض جنده فإنه لا ينبسط إليه الغلام‏.‏

فإن انبسط ذكر هيبة المملكة‏.‏

فكذلك المحقق يعطيها حظها ويستوفي منها ما عليها‏.‏

  فصل إضاعة الوقت

رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً‏.‏

إن طال الليل فبحديث لا ينفع أو بقراءة كتاب فيه غزاة وسمر‏.‏

وإن طال النهار فبالنوم‏.‏

وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق‏.‏

فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري بهم وما عندهم خبر‏.‏

ورأيت النادرين قد فهموا معنى الوجود فهم في تعبئة الزاد والتأهب للرحيل‏.‏

إلا أنهم يتفاوتون وسبب تفاوتهم قلة العلم وكثرته بما ينفق في بلد الإقامة‏.‏

والغافلون منهم يحملون ما اتفق وربما خرجوا لا مع خفير‏.‏

فكم ممن قد قطعت عليه الطريق فبقي مفلساً‏.‏

فالله الله في مواسم العمل‏.‏

والبدار البدار قبل الفوات‏.‏

واستشهدوا العلم واستدلوا الحكمة ونافسوا الزمان وناقشوا النفوس واستظهروا بالزاد‏.‏

فكأن قد حدا الحادي فلم يفهم صوته من وقع مع الندم‏.‏

  فصل أنواع التخطيط

أضر ما على المريض التخليط وما من أحد إلا وهو مريض بالهوى والحمية هي رأس الدواء‏.‏

والتخليط يديم المرض وتخليط أرباب الآخرة على ضربين‏.‏

أحدهما‏:‏ تخليط العلماء وهو إما لمخالطة الأضداد كالسلاطين فإنهم يضعفون قوي يقينهم وكلما زادت المخالطة يفقدون دليلهم عند المريدين‏.‏

والثاني‏:‏ تخيط الزهاد وقد يكون بمخالطة أرباب الدنيا وقد يكون بحفظ الناموس في إظهار التخشع لاجتلاب محبة العوام‏.‏

ونعم طريق السلامة ستة الحال‏.‏

‏.‏

  فصل العلماء العاملون

لقيت مشايخ أحوالهم مختلفة يتفاوتون في مقاديرهم في العلم‏.‏

وكان أنفعهم لي في صحبة العامل منهم بعلمه وإن كان غيره أعلم منه‏.‏

ولقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون ويعرفون ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبة يخرجونها مخرج جرح وتعديل ويأخذون على قراءة الحديث أجرة ويسرعون بالجواب لئلا ينكسر الجاه وإن وقع خطأ‏.‏

ولقيت عبد الوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف لم يسمع في مجلسه غيبة ولا كان يطلب أجراً على سماع الحديث وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه‏.‏

فكان - وأنا صغير السن حينئذ - يعمل بكاؤه في قلبي ويبني قواعد‏.‏

وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل‏.‏

ولقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي فكان كثير الصمت شديد التحري فيما يقول متقناً محققاً‏.‏

وكان كثير الصوم والصمت فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما‏.‏

ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول‏.‏

ورأيت مشايخ كانت لهم خلوات في انبساط ومزاح فراحوا عن القلوب وبدد تفريطهم ما جمعوا من العلم‏.‏

فقل الانتفاع بهم في حياتهم ونسوا بعد مماتهم فلا يكاد أحد أن يلتفت إلى مصنفاتهم‏.‏

فالله الله في العلم بالعمل فإنه الأصل الأكبر‏.‏

والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به ففاتته لذات الدنيا وخيرات الآخرة فقدم مفلساً مع قوة الحجة عليه‏.‏

  فصل

وأملي لهم سبحان الملك العظيم الذي من عرفه خافه ومن أمن مركه قط ما عرفه‏.‏

لقد تأملت أمراً عظيماً أنه عز وجل يمهل حتى كأنه يهمل فترى أيدي العصاة مطلقة كأنه لا مانع‏.‏

فإذا زاد الانبساط ولم ترعو العقول أخذ أخذ جبار‏.‏

وإنما كان ذلك الإمهال ليبلو صبر الصابر وليملي في الإمهال للظالم فيثبت هذا على صبره ويجزي هذا بقبيح فعله‏.‏

مع أن هنالك من الحلم في طي ذلك ما لا نعلمه‏.‏

فإذا أخذ أخذ عقوبة رأيت على كل غلطة تبعة‏.‏

وربما جمعت فضربت العاصي بالحجر الدامغ‏.‏

وربما خفي على الناس سبب عقوبته فقيل فلان من أهل الخير فما وجه ما جرى له‏.‏

فيقول القدر‏:‏ حدود لذنوب خفية صار استيفاؤها ظاهراً‏.‏

فسبحان من ظهر حتى لا خفاء به واستتر حتى كأنه لا يعرف‏.‏

وأمهل حتى طمع في مسامحته وناقش حتى تحيرت العقول من مؤاخذته لا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

  فصل سياسة النفس

تأملت العلم والميل إليه والتشاغل به فإذا هو يقوي القلب قوة تميل به إلى نوع قساوة‏.‏

ولولا قوة القلب وطول الأمل لم يقع التشاغل به‏.‏

فإني أكتب الحديث أرجو أن أرويه وأبتدىء بالتصنيف أرجو أن أتمه فإذا تأملت باب المعاملات قل الأمل ورق القلب وجاءت الدموع وطابت المناجاة وغشيت السكينة وصرت كأني في مقام المراقبة‏.‏

إلا أن العلم أفضل وأقوى حجة وأعلى رتبة وإن حدث منه ما شكوت منه‏.‏

والمعاملة وإن كثرت الفوائد التي أشرت إليها منها فإنها قريبة إلى أحوال الجبان الكسلان الذي قد اقتنع بصلاح نفسه عن هداية غيره وانفرد بعزلته عن اجتذاب الخلق إلى ربهم‏.‏

فالصواب العكوف على العلم مع تلذيع النفس بأسباب المرققات تلذيعاً لا يقدح في كمال التشاغل بالعلم‏.‏

فإني لأكره لنفسي من جهة ضعف قلبي ورقته أن أكثر زيارة القبور وأن أحضر المحتضرين لأن ذلك يؤثر في فكري ويخرجني من حيز المتشاغلين بالعلم إلى مقام الفكر في الموت ولا أنتفع بنفسي مدة‏.‏

وفصل الخطاب في هذا أنه ينبغي أن يقاوم المرض بضده‏.‏

فمن كان قلبه قاسياً شديد القسوة وليس عنده من المراقبة ما يكفه عن الخطأ قاوم ذلك بذكر الموت ومحاضرة المحتضرين‏.‏

فأما من قلبه شديد الرقة فيكفيه ما به بل ينبغي له أن يتشاغل بما ينسيه ذلك لينتفع بعيشه وليفهم ما يفتي به‏.‏

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمزح ويسابق عائشة رضي الله عنها ويتلطف بنفسه فمن سار سيرته عليه الصلاة والسلام فهم من مضمونها ما قلته من ضرورة التلطف بالنفس‏.‏

  فصل ساعة الاحتضار من أظرف الأشياء

إفاقة المحتضر عند موته فإنه ينتبه انتباهاً لا يوصف ويقلق قلقاً لا يحد ويتلهف على زمانه الماضي‏.‏

ويود لو ترك كي يتدارك ما فاته ويصدق في توبته على مقدار يقينه بالموت ويكاد يقتل نفسه قبل موتها بالأسف‏.‏

ولو وجدت ذرة من تلك الأحوال في أوان العافية حصل كل مقصود من العمل بالتقوى‏.‏

فالعاقل من مثل تلك الساعة وعمل بمقتضى ذلك‏.‏

فإن لم يتهيأ تصوير ذلك على حقيقته تخايله على قدر يقظته‏.‏

فإنه يكف كف الهوى ويبعث على الجد‏.‏

كما روي عن حبيب العجمي أنه كان إذا أصبح يقول لامرأته‏:‏ إذا مت اليوم ففلان يغسلني وفلان يحملني‏.‏

وقال معروف لرجل صل بنا الظهر فقال‏:‏ إن صليت بكم الظهر لم أصل بكم العصر فقال‏:‏ وكأنك تؤمل أن تعيش إلى العصر نعوذ بالله من طول الأمل‏.‏

وذكر رجل رجلاً بين يديه بغيبة فجعل معروف يقول له‏:‏ اذكر القطن إذا وضعوه على عينيك‏.‏

  فصل أهل الإشارة

ربما أخذ المتيقظ بيت شعر فأخذ منه إشارة فانتفع بها‏.‏

قال الجنيد‏:‏ ناولني سري رقعة مكتوب فيها سمعت حادياً في طريق مكة شرفها الله تعالى يقول‏:‏ أبكي وما يدريك ما يبكيني أبكي حذاراً أن تفارقيني وتقطعي حبلي وتهجريني فانظر رحمك الله ووفقك إلى تأثير هذه الأبيات عند سري حتى أحب أن يطلع منها الجنيد على ما اطلع عليه ولم يصلح للاطلاع على مثلها إلا الجنيد‏.‏

قال بعضهم لما سمع مثل هذه‏.‏

إلام يشار بهذه‏.‏

إن كان الحق فالحق عز وجل لا يشار إليه بلفظ تأنيث‏.‏

وإن كان إلى امرأة فأين الزهد‏.‏

ولعمري إن هذا حدآء أهل الغفلة إذا سمعوا مثل هذا ولذلك ينهى عن سماع القصائد وأقوال أهل الغناء لأن الغالب حمل تلك الأبيات على مقاصد النفس وغلبات الهوى‏.‏

ومن أين لنا مثل الجنيد وسري‏.‏

وإذا وجدنا مثلهما فهما خبيران بما يسمعان‏.‏

وأما اعتراض هذا الكثيف الطبع فالجواب‏:‏ أن سرياً لم يأخذ الإشارة من اللفظ ولم يقس ذلك على مطلوبه فيصيره تأنيثاً أو تذكيراً‏.‏

وإنما أخذ الإشارة من المعنى فكأنه يخاطب حبيبه بمعنى الأبيات فيقول‏:‏ أبكي حذاراً من إعراضك وإبعادك‏.‏

فهذا الحاصل له‏.‏

وما التفت قط إلى تذكير ولا إلى لفظ تأنيث فافهم هذا‏.‏

وما زال المتيقظون يأخذون الإشارة من مثل هذا حتى كانوا يأخذونها من هذا الذي تقوله العامة ويلقبونه بكان وكان‏.‏

غسلت له طول الليل فركت له طول النهار خرج يعاين غيري زلق وقع في الطين فأخذ من ذلك إشارة معناها‏:‏ يا عبدي إني حسنت خلقك وأصلحت شأنك وقومت بنيتك فأقبلت على غيري فانظر عواقب خلافك لي‏.‏

وقال ابن عقيل‏:‏ وسمعت امرأة تقول‏:‏ من هذا لكان‏.‏

وكانت كلمة بقيت في قلقها مدة‏:‏ كم كنت بالله أقول لك لذا التواني غائله وللقبيح خميرة تبين بعد قليل قال ابن عقيل‏:‏ فما أوقعه من تخجيل على إهمالنا لأمور غداً تبين خمايرها بين يدي الله تعالى‏.‏

  فصل حساب الورعين

أمكنني تحصيل شيء من الدنيا بنوع من أنواع الرخص‏.‏

فكنت كلما حصل شيء منه فاتني من قلبي شيء وكلما استنارت لي طريق التحصيل تجدد في قلبي ظلمة‏.‏

فقلت يا نفس السوء - الإثم حواز القلوب - وقد قال استفت قلبك فلا خير في الدنيا كلها إذا كان في القلب من تحصيلها شيء أوجب نوع كدر‏.‏

وإن الجنة لو حصلت بسبب يقدح في الدين أو في المعاملة ما لذت والنوم على المزابل مع سلامة القلب من الكدر ألذ من تكآت الملوك‏.‏

وما زلت أغلب نفسي تارة وتغلبني أخرى ثم تدعى الحاجة إلى تحصيل ما لا بد لها منه‏.‏

وتقول‏:‏ فما أتعدى في الكسب المباح في الظاهر‏.‏

فقلت لها‏:‏ أوليس الورع يمنع من هذا قالت‏:‏ بلى‏.‏

قلت‏:‏ أليست القوة في القلب تحصل به قالت‏:‏ بلى‏.‏

قلت‏:‏ فلا خير لك في شيء هذا ثمرته‏.‏

فخلوت يوماً بنفسي فقلت لها‏:‏ ويحك اسمعي أحدثك‏.‏

إن جمعت شيئاً من الدنيا من وجه فيه شبهة أفأنت على يقين من إنفاقه قالت‏:‏ لا‏.‏

قلت‏:‏ فالمحنة أن يحظى به الغير ولا تنالين إلا الكدر العاجل والوزر الذي لا يؤمن‏.‏

ويحك اتركي هذا الذي يمنع منه الورع لأجل الله فعامليه بتركه‏.‏

وكأنك لا تريدين أن لا تتركي إلا ما هو محرم فقط أو ما لا يصح وجهه‏.‏

أما لك عبرة في أقوام جمعوا فحازه سواهم وأملوا فما بلغوا مناهم‏.‏

كم من عالم جمع كتباً كثيرة ما انتفع بها‏.‏

وكم من منتفع ما عنده عشرة أجزاء وكم من طيب العيش لا يملك دينارين‏.‏

وكن من ذي قناطير منغص‏.‏

أما لك فطنة تتلمح أحوال من يترخص من وجه فيسلب منه من أوجه‏.‏

ربما نزل المرض بصاحب الدار أو ببعض من فيها فأنفق في سنته أضعاف ما ترخص في كسبه والمتقي معافى‏.‏

فضجت النفس من لومي وقالت‏:‏ إذا لم أتعد واجب الشرع فما الذي تريد مني‏.‏

فقلت‏:‏ لها أضن بك عن الغبن وأنت أعرف بباطن أمرك‏.‏

قالت‏:‏ فقل لي ما أصنع‏.‏

قلت‏:‏ عليك بالمراقبة لمن يراك ومثلي نفسك بحضرة معظم من الخلق فإنك بين يدي الملك الأعظم يرى من باطنك ما لا يراه المعظمون من ظاهرك‏.‏

فخذي بالأحوط واحذري من الترخص في بيع اليقين والتقوى بعاجل الهوى‏.‏

فإن ضاق الطبع مما تلقين فقولي له‏:‏ مهلاً فما انقضت مدة الإشارة والله مرشدك إلى التحقيق ومعينك بالتوفيق‏.‏

ما زلت أسمع عن جماعة من الأكابر وأرباب المناصب إنهم يشربون الخمور ويفسقون ويظلمون ويفعلون أشياء توجب الحدود‏.‏

فبقيت أتفكر أقول متى يثبت على مثل هؤلاء ما يوجب حداً ولو ثبت فمن يقيمه‏.‏

وأستبعد هذا في العادة لأنهم في مقام احترام لأجل مناصبهم‏.‏

فبقيت أتفكر في تعطيل الحد الواجب عليهم حتى رأيناهم قد نكبوا وأخذوا مرات ومرت عليهم العجائب‏.‏

فقوبل ظلمهم بأخذ أموالهم وأخذت منهم الحدود مضاعفة بعد الحبس الطويل والقيد الثقيل والذل العظيم‏.‏

وفيهم من قتل بعد ملاقاة كل شدة فعلمت أنه ما يهمل شيء فالحذر الحذر فإن العقوبة بالمرصاد‏.‏

  فصل الغنى من العافية

اجتهاد العاقل فيما يصلحه لازم له بمقتضى العقل والشرع‏.‏

فمن ذلك حفظ ماله وطلب تنميته والرغبة في زيادته لأنه سبب بقاء الإنسان ماله فقد نهى عن التبذير فيه فقيل له‏:‏ ‏"‏ ولا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أموالَكم ‏"‏ فاعلم أنه سبب لبقائه‏:‏ ‏"‏ التي جَعَلَ اللّه لكمُ قِيَاماً ‏"‏ أي قواماً لمعاشكم‏.‏

وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ ولا تَبْسُطها كلَّ البسطِ ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تبذِّرْ تبذيراً ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ لَمْ يُسرفوا ولَمْ يَقتُرُوا وكان بين ذلك قواماً ‏"‏‏.‏

ومن فضيلة المال أن الله تعالى قال‏:‏ ‏"‏ مَنْ ذَا الذِي يُقرِضُ اللَّهَ قَرْضاَ حسناً ‏"‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وأنفقوا في سبيل اللّه ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ينفقون أموالهم ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ لا يَستوِي منكم من أنفقَ مِنْ قبل الفَتح ‏"‏ وجعل المال نعمة وزكاته تطهيراً فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ خُذْ مِنْ أموَالِهِمْ صَدقَةَ تُطهرُهُمْ وتزكيهمْ بهَا ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ نعم المال الصالح للرجل الصالح وقال‏:‏ ما نفعني مال كمال أبي بكر‏.‏

وكان أبو بكر رضي الله عنه يخرج إلى التجارة ويترك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينهاه عن ذلك‏.‏

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ لأن أموت بين شعبتي جبل أطلب كفاف وجهي أحب إلي من أن أموت غازياً في سبيل الله‏.‏

وكان جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يتجرون ومن سادات التابعين سعيد ابن المسيب‏.‏

مات وخلف مالاً وكان يحتكر الزيت - أي ينفرد ببيعه -‏.‏

وما زال السلف على هذا ثم قد تعرض نوائب كالمرض يحتاج فيها إلى شيء من المال فلا يجد الإنسان بداً من الاضطراب في طلبته فيبذل عرضه أو دينه‏.‏

ثم للنفس قوة بدنية عند وجود المال وهو معدود عند الأطباء من الأدوية‏.‏

وتلك حكمة وضعها الواضع‏.‏

وإنما نبغ أقوام طلبوا طريق الراحة فادعوا أنهم متوكلة وقالوا‏:‏ نحن لا نمسك شيئاً‏.‏

ولا نتزود لسفر ورزق الأبدان يأتي‏.‏

وهذا على مضادة الشرع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال‏.‏

وموسى عليه السلام لما سافر في طلب الخضر تزود‏.‏

ونبينا صلى الله عليه وسلم لما هاجر تزود وأبلغ من هذا قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وَتَزَوَّدُوا فإن خيرَ الزاد التقوَى ‏"‏‏.‏

ثم يدعي هؤلاء المتصوفة بغض الدنيا فلا يفهمون ما الذي ينبغي أن يبغض‏.‏

ويرون زيادة الطلب للمال حرصاً وشرهاً‏.‏

وشيء من البهرجة إذا نصبوا شباك الصيد بالتزهد فسموا ما يصل إليهم من الأرزاق فتوحاً‏.‏

قال ابن قتيبة في غريب الحديث عند شرح قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ واليد العليا‏.‏

قال‏:‏ هي المعطية‏.‏

قال فالعجب عندي من قوم يقولون هي الآخذة‏.‏

ولا أرى هؤلاء القوم إلا قوماً استطابوا السؤال فهم يحتجون للدناءة‏.‏

فأما الشرائع فأنها بريئة من حالهم وفي الحديث‏:‏ ضاق البلد بمواشي إبراهيم ولوط عليهما السلام فافترقا‏.‏

وكان شعيب عليه السلام كثير المال‏.‏

ثم قد ند طمعه في زيادة الأجر من موسى عليه السلام فقال‏:‏ ‏"‏ فإنْ أتممتَ عشراً فمنْ عندِك ‏"‏‏.‏

وكان ابن عقيل رحمه الله يقول‏:‏ من قال إني لا أحب الدنيا فهو كذاب‏.‏

فإن يعقوب عليه السلام لما طلب منه ابنه يامين قال‏:‏ ‏"‏ هَلْ آمنكُم عليهِ ‏"‏‏.‏

فقالوا‏:‏ ‏"‏ ونزدَادُ كيْلَ بعِير ‏"‏ فقال‏:‏ خذوه‏.‏

وقال بعض السلف‏:‏ من ادعى بغض الدنيا فهو عندي كذاب إلى أن يثبت صدقه فإذا ثبت صدقه فهو مجنون‏.‏

وقد نفر جماعة من المتصوفة خلقاً من الخلق عن الكسب وأوحشوا بينهم وبينه وهو دأب الأنبياء والصالحين‏.‏

وإنما طلبوا طريق الراحة وجلسوا على الفتوح‏.‏

فإذا شبعوا رقصوا فإذا انهضم الطعام أكلوا‏.‏

فإذا لاحت لهم حيلة على غني أوجبوا عليه دعوة إما بسبب شكر أو بسبب استغفار‏.‏

وأطم الطامات ادعاؤهم أن هذا قربة‏.‏

وقد انعقد إجماع العلماء أن من ادعى الرقص قربة إلى الله تعالى كفر‏.‏

فلو أنهم قالوا مباح كان أقرب حالاً وهذا لأن القرب لا تعرف إلا بالشرع وليس في الشرع أمر بالرقص ولا ندب إليه‏.‏

ولقد بلغني عن جماعة منهم أنهم كانوا يوقدون الشمع في وجوه المردان وينظرون إليهم فإذا سئلوا عن ذلك سخروا بالسائل فقالوا‏:‏ نعتبر بخلق الله‏!‏‏!‏‏!‏‏.‏

أفتراهم أقوى من النبي صلى الله عليه وسلم حين أجلس الشاب الذي وفد عليه من وراء ظهره وقال‏:‏ وهل كانت فتنة داود إلا من النظر‏.‏

هيهات‏!‏ لقد تملك الشيطان تلك الأزمة فقادها إلى ما أراد‏.‏

وما زال صالحوا السلف يفتشون على المطعم حتى كان إبراهيم بن أدهم يسهر هو وأصحابه ويقولون مع من نعمل غداً‏.‏

وكان سري السقطي يعرف بطيب الغذاء وله في الورع مقامات فجاء قوم يتسمون بالصوفية يدعون أتباع أولئك السادة ويأكلون من مال فلان وهم يعرفون أصول تلك الأموال ويقولون رزقنا‏.‏

فواعجباً إذا كان الآكل لا يبالي به من أين ولا لديه امتناع من شهوة ولا تقلل ولا يخلو الرباط من المطبخ ولا ينقطع ليلة وأصله من مال قد عرق من أين هو والحمام دائر والمغني يدق بدف فيه جلاجل ورفيقه بالشبابة وسعدى وليلى في الإنشاد والمردان في الشمع ثم يذم الدنيا بعد هذا‏.‏

فقولوا لنا‏:‏ من يتلهى بالناس إلا هؤلاء ولكن من مرت عليه زرجتهم فإنهم أخس منهم‏.‏

  فصل عجائب الكون

عرض لي في طريق الحج خوف من العرب فسرنا على طريق خيبر فرأيت من الجبال الهائلة والطرق العجيبة ما أذهلني وزادت عظمة الخالق عز وجل في صدري فصار يعرض لي عند فصحت بالنفس‏:‏ ويحك اعبري إلى البحر وانظري إليه وإلى عجائبه بعين الفكر تشاهدي أهوالاً هي أعظم من هذه ثم اخرجي عن الكون والتفتي إليه فإنك ترينه بالإضافة إلى السموات والأفلاك كذرة في فلاة‏.‏

ثم جولي في الأفلاك وطوفي حول العرش وتلمحي ما في الجنان والنيران‏.‏

ثم اخرجي عن الكل والتفتي إليه فإن تشاهدين العالم في قبضة القادر الذي لا تقف قدرته عند حد‏.‏

ثم التفتي إليك فتلمحي بدايتك ونهايتك وتفكري فيما قبل البداية وليس إلا العدم وفيما بعد البلى وليس إلا التراب‏.‏

فكيف يأنس بهذا الوجود من نظر بعين فكره المبدأ والمنتهى‏.‏

وكيف يغفل فعل القلوب عن ذكر هذا الإله العظيم‏.‏

بالله لو صحت النفوس عن سكر هواها لذابت من خوفه أو لغابت في حبه‏.‏

غير أن الحس غلب فعظمت قدرة الخالق عند رؤية جبل وإن الفطنة لو تلمحت المعاني لدلت القدرة عليه أو في من دليل الجبل‏.‏

سبحان من شغل أكثر الخلق بما هم فيه عما خلقوا له سبحانه‏.‏

للبلايا نهايات معلومة الوقت عند الله عز وجل‏.‏

فلا بد للمبتلي من الصبر إلى أن ينقضي أوان البلاء‏.‏

فإن تقلقل قبل الوقت لم ينفع التقلقل كما أن المادة إذا انحدرت إلى عضو فإنها لن ترجع فلا بد من الصبر إلى حين البطالة‏.‏

فاستعجال زوال البلاء مع تقدير مدته لا ينفع‏.‏

فالواجب الصبر وإن كن الدعاء مشروعاً ولا ينفع إلا به إلا أنه لا ينبغي للداعي أن يستعجل بل يتعبد بالصبر والدعاء والتسليم إلى الحكيم‏.‏

ويقطع المواد التي كانت سبباً للبلاء فإن غالب البلاء أن يكون عقوبة‏.‏

فأما المستعجل فمزاحم للمدبر وليس هذا مقام العبودية وإنما المقام الأعلى هو الرضى والصبر هو اللازم‏.‏

والتلاحي بكثرة الدعاء نعم المعتمد والاعتراض حرام والاستعجال مزاحمة للتدبير فافهم هذه الأشياء فإنها تهون البلاء‏.‏

  فصل عون على الصبر

وخصوصاً إذا امتد الزمان أو وقع اليأس من الفرج‏.‏

وتلك المدة تحتاج إلى زاد يقطع به سفرها والزاد من أجناس‏.‏

فمنه تلمح مقدار البلاء وقد يمكن أن يكون أكثر‏.‏

ومنه أنه في حال فوقها أعظم منها مثل أن يبتلي بفقد ولد وعنده أعز منه‏.‏

ومن ذلك رجاء العوض في الدنيا‏.‏

ومنه تلمح الأجر في الآخرة‏.‏

ومنه التلذذ بتصوير المدح والثناء من الخلف فيما يمدحون عليه والأجر من الحق عز وجل‏.‏

ومن ذلك بأن الجزع لا يفي بل يفضح صاحبه إلى غير ذلك من الأشياء التي يقدحها العقل والفكر‏.‏

فليس في طريق الصبر نفقة سواها فينبغي للصابر أن يشغل بها نفسه ويقطع بها ساعات ابتلائه وقد صبح المنزل‏.‏

  فصل اختيار الله أولى

ينبغي لمن وقع في شدة ثم دعا أن لا يختلج في قلبه أمر من تأخير الإجابة أو عدمها‏.‏

لأن الذي إليه أن يدعو والمدعو مالك حكيم فإن لم يجب فعل ما يشاء في ملكه وإن أخر فعل بمقتضى حكمته‏.‏

فالمعترض عليه في سره خارج عن صفة عبد مزاحم بمرتبة مستحق‏.‏

ثم ليعلم أن اختيار الله عز وجل له خير من اختياره لنفسه‏.‏

فربما سأل سيلاً سال به وفي الحديث‏:‏ أن رجلاً كان يسأل الله عز وجل أن يرزقه الجهاد فهتف به هاتف‏:‏ إنك غزوت أسرت وإن أسرت تنصرت‏.‏

فإذا سلم العبد تحكيماً لحكمته وحكمه وأيقن أن الكل ملكه طاب قلبه قضيت حاجته أو لم تقض‏.‏

وفي الحديث‏:‏ ما من مسلم دعا الله تعالى إلا أجابه‏.‏

فإما أن يعجلها وإما أن يؤخرها وإما أن يدخرها له في الآخرة‏.‏

فإذا رأى يوم القيامة أن ما أجيب فيه قد ذهب وما لم يجب فيه قد بقي ثوابه قال‏:‏ ليتك لم تجب لي دعوة قط‏.‏

فافهم هذه الأشياء وسلم قلبك من أن يختلج فيه ريب أو استعجال‏.‏

من أراد أن يعرف رتبة العلماء على الزهاد فلينظر في رتبة جبريل وميكائيل ومن خص من الملائكة بولاية تتعلق بالخلق وباقي الملائكة قيام للتعبد في مراتب الرهبان في الصوامع‏.‏

وقد حظي أولئك بالتقريب على مقادير علمهم بالله تعالى‏.‏

فإذا مر أحدهم بالوحي انزعج أهل السماء حتى يخبرهم بالخبر فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم‏.‏

قالوا الحق‏.‏

كما إذا انزعج الزاهد من حديث يسمعه سأل العلماء عن صحته ومعناه‏.‏

فسبحان من خص فريقاً بخصائص شرفوا بها على جنسهم‏.‏

ولا خصيصة أشرف من العلم‏.‏

بزيادته صار آدم مسجوداً له وبنقصانه صارت الملائكة ساجدة‏.‏

فأقرب الخلق من الله العلماء وليس العلم بمجرد صورته هو النافع بل معناه وإنما ينال معناه من تعلمه للعمل به‏.‏

فكلما دله على فضل اجتهد في نيله وكلما نهاه عن نقص بالغ في تجنبه‏.‏

فحينئذ يكشف العلم له سره ويسهل عليه طريقه فيصير كمجتذب يحث الجاذب فإذا حركه عجل في سيره‏.‏

والذي لا يعمل بالعلم لا يطلعه العلم على غوره ولا يكشف له عن سره فيكون كمجذوب لجاذب جاذبه‏.‏

فافهم هذا المثل وحسن قصدك وإلا فلا تتعب‏.‏

  فصل التلطف مع النفس

اعلم أن أصلح الأمور الاعتدال في كل شيء وإذا رأينا أرباب الدنيا قد غلبت آمالهم وفسدت في الخير أعمالهم أمرناهم بذكر الموت والقبور والآخرة‏.‏

فأما إذا كان العالم لا يغيب عن ذكره الموت‏.‏

وأحاديث الآخرة تقرأ عليه وتجري على لسانه فتذكاره الموت زيادة على ذلك لا تفيد إلا انقطاعه بالمرة‏.‏

بل ينبغي لهذا العالم الشديد الخوف من الله تعالى الكثير الذكر للآخرة أن يشاغل نفسه عن ذكر الموت ليمتد نفسه أمله قليلاً فيصنف ويعمل أعمال خير ويقدر على طلب ولد‏.‏

فأما إذا لهج بذكر الموت كانت مفسدته عليه أكثر من مصلحته‏.‏

ألم تسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق عائشة رضي الله عنها فسبقته فسبقها وكان يمزح ويشاغل نفسه‏.‏

وقد روي عن أحمد بن حنبل رحمة الله عليه‏:‏ أنه سأل الله تعالى أن يفتح عليه باب الخوف ففتح عليه فخاف على عقله‏.‏

فسأل الله أن يرد ذلك عنه‏.‏

نتأمل هذا الأصل فإنه لا بد من مغالطة النفس وفي ذلك صلاحها والله الموفق والسلام‏.‏

  فصل التطلع إلى الأفضل

من أعمل فكره الصافي دله على طلب أشرف المقامات ونهاه عن الرضى بالنقص في كل حال‏.‏

وقد قال أبو الطيب المتنبي‏:‏ ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه فلو كان يتصور للآدمي صعود السموات لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض‏.‏

ولو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد رأيت المقصر في تحصيلها في حضيض‏.‏

غير أنه إذا لم يمكن ذلك فينبغي أن يطلب الممكن‏.‏

والسيرة الجميلة عند الحكماء خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل‏.‏

وأنا أشرح من ذلك ما يدل مذكوره على مغفله‏.‏

أما في البدن‏:‏ فليست الصورة داخلة تحت كسب الآدمي بل يدخل تحت كسبه تحسينها وتزيينها‏.‏

فقبيح بالعاقل إهمال نفسه وقد نبه الشرع على الكل بالبعض‏.‏

فأمر بقص الأظفار ونتف الإبط وحلقة العانة ونهى عن أكل الثوم والبصل النيء لأجل الرائحة‏.‏

وينبغي له أن يقيس على ذلك ويطلب غاية النظافة ونهاية الزينة‏.‏

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف مجيئه بريح الطيب فكان الغاية في النظافة والنزاهة‏.‏

ولست آمر بزيادة التقشف الذي يستعمله الموسوس ولكن التوسط هو المحمود‏.‏

ثم ينبغي له أن يرفق ببدنه الذي هو راحلته ولا ينقص من قوتها فتنقص قوته‏.‏

ولست آمر بالشبع الذي يوجب الجشاء إنما آمر بالتوسط فإن قوى الآدمي كعين جارية كم فيها من منفعة لصاحبها ولغيره‏.‏

ولا يلتفت إلى قول الموسوسين من المتزهدين الذين جدوا في التقلل فضعفوا عن الفرائض‏.‏

وليس ذلك من الشرع ولا نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه‏.‏

إنما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا لم يجدوا جاعوا وربما آثروا فصبروا وكذلك ينبغي أن ينظر لهذه الراحلة في علفها - فرب لقمة منعت لقمات - فلا يعطيها ما يؤذيها بل ينظر لها في الأصلح ولا يتلفت إلى متزهد يقول لا أبلغها الشهوات‏.‏

فإن النظر ينبغي أن يكون في حل المطعم وأخذ ما يصلح بمقدار‏.‏

ولم ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم ما أحدثه الموسوسون في ترك المشتهيات على الإطلاق‏.‏

إنما نقل عنهم تركها لسبب إما للنظر في حلها أو للخوف من مطالبة النفس بها في كل وقت ويجوز ذلك‏.‏

وينبغي له أن يجتهد في التجارة والكسب ليفضل على غيره ولا يفضل غيره عليه‏.‏

وليبلغ من ذلك غاية لا تمنعه عن العلم ثم ينبغي له أن يطلب الغاية في العلم‏.‏

ومن أقبح النقص التقليد فإن قويت همته رقته إلى أن يختار لنفسه مذهباً ولا يتمذهب لأحد‏.‏

فإن المقلد أعمى يقوده مقلده‏.‏

ثم ينبغي أن يطلب الغاية في معرفة الله تعالى ومعاملته وفي الجملة لا يترك فضيلة يمكن تحصيلها إلا حصلها‏.‏

فإن القنوع في حالة الأرذال‏.‏

فكن رجلاً رجله في الثّرى وهامة همّته في الثريّا وما قعد من قعد بالا لدناءة الهمة وخساستها‏.‏

واعلم أنك في ميدان سباق والأوقات تنتهب‏.‏

ولا تخلد إلى كسل‏.‏

فما فات ما فات إلا بالكسل‏.‏

ولا نال من نال إلا بالجد والعزم‏.‏

وإن الهمة لتغلي في القلوب غليان ما في القدور وقد قال بعض من سلف‏:‏ ليس لي مال سوى كرّي فبه أحيا من العدم قنعت نفسي بما رزقت وتمطت في العلا هممي فصل الفقر بلاء ومنقصة ليس في الدنيا أنفع للعلماء من جمع المال للاستغناء عن الناس فإنه إذا ضم إلى العلم حيز الكمال‏.‏

وإن جمهور العلماء شغلهم العلم عن الكسب فاحتاجوا إلى ما لا بد منه‏.‏

وقل الصبر فدخوا مداخل شانتهم وإن تأولوا فيها إلا أن غيرها كان أحسن لهم‏.‏

فالزهري مع عبد الملك وأبو عبيدة مع طاهر بن الحسين وابن أبي الدنيا مؤدب المعتضد وابن قتيبة صدر كتابه بمدح الوزير‏.‏

وما زال خلف من العلماء والزهاد يعيشون في ظل جماعة من المعروفين وهؤلاء وإن كانوا سلكوا طريقاً من التأويل فإنهم فقدوا من قلوبهم وكمال دينهم أكثر مما نالوا من الدنيا‏.‏

وقد رأينا جماعة من المتصوفة والعلماء يغشون الولاة لأجل نيل ما في أيديهم فمنهم من يداهن ويرائي ومنهم من يمدح بما لا يجوز ومنهم من يسكت عن منكرات إلى غير ذلك من المداهنات وسببه الفقر‏.‏

فعلمنا أن كمال العز وبعد الرياء إنما يكون في البعد عن العمال الظلمة‏.‏

ولم نر من صح له هذا إلا في أحد رجلين‏.‏

إما من كان له مال كسعيد بن المسيب كان يتجر في الزيت وغيره وسفيان الثوري كانت له بضائع وابن المبارك‏.‏

وإما من كان شديد الصبر قنوعاً بما رزق وإن لم يكفه كبشر الحافي وأحمد ابن حنبل‏.‏

ومتى لم يجد الإنسان كصبر هذين ولا كمال أولئك فالظاهر تقلبه في المحن والآفات‏.‏

وربما تلف دينه‏.‏

فعليك يا طالب العلم بالاجتهاد في جمع المال للغنى عن الناس فإنه يجمع لك دينك‏.‏

فما رأينا في الأغلب منافقاً في التدين والتزهد والتخشع ولا آفة طرأت على عالم إلا بحب الدنيا وغالب فإن كان له ما يكفيه ثم يطلب بتلك المخالطة الزيادة فذلك معدود في أهل الشره خارج عن حيز العلماء نعوذ بالله من تلك الأحوال‏.‏

  فصل فضل الفقه

أعظم دليل على فضيلة الشيء النظر إلى ثمرته‏.‏

ومن تأمل ثمرة الفقه علم أنه أفضل العلوم‏.‏

فإن أرباب المذاهب فاقوا على الخلائق أبداً وإن كان في زمن أحدهم من هو أعلم منه بالقرآن أو بالحديث أبو باللغة‏.‏

واعتبر هذا بأهل زماننا فإنك ترى الشاب يعرف مسائل الخلاف الظاهرة فيستغني ويعرف حكم الله تعالى في الحوادث ما لا يعرفه النحرير من باقي العلماء‏.‏

وكما رأينا مبرزاً في علم القرآن أو في الحديث أو في التفسير أو في اللغة لا يعرف مع الشيخوخة معظم أحكام الشرع‏.‏

وربما جهل عمل ما ينويه في صلاته على أنه ينبغي للفقيه ألا يكون أجنبياً عن باقي العلوم‏.‏

فإنه لا يكون فقيهاً‏.‏

بل يأخذ من كل علم بخط ثم يتوفر على الفقه فإنه عز الدنيا والآخرة‏.‏

رأيت كثيراً من الناس يتحرزون من رشاش نجاسة ولا يتحاشون من غيبة ويكثرون من الصدقة ولا يبالون بمعاملات الربا ويتهجدون بالليل ويؤخرون الفريضة عن الوقت في أشياء يطول عددها من حفظ فروع وتضييع أصول‏.‏

فبحثت عن سبب ذلك فوجدته من شيئين‏:‏ أحدهما العادة والثاني غلبة الهوى في تحصيل المطلوب فإنه قد يغلب فلا يترك سمعاً ولا بصراً‏.‏

ومن هذا القبيل أن إخوة يوسف قالوا - حين سمعوا صوت المنادي‏:‏ ‏"‏ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ‏"‏ - ‏"‏ لَقَدْ عَلِمْتُم ما جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كنَّا سَارِقينَ ‏"‏ فجاء في التفسير أنهم لما دخلوا مصر كمموا أفواه إبلهم لئلا تتناول ما ليس لهم فكأنهم قالوا قد رأيتم ما صنعنا بإبلنا فكيف نسرق ونسوا هم تفاوت ما بين الورع واختطاف أكلة لا يملكونها وبين إلقاء يوسف عليه السلام في الجب وبيعه بثمن بخس‏.‏

وفي الناس من يطيع في صغار الأمور دون كبارها وفيما كلفته عليه خفيفة أو معتادة وفيما لا ينقص شيئاً من عادته في مطعم وملبس‏.‏

نرى أقواماً يأخذون ويقول أحدهم‏:‏ كيف يراني عدوي بعد أن بعت داري أو تغير ملبوسي ومركوبي‏!‏‏.‏

وأقواماً يستعملون التأويلات الفاسدة في تحصيل أغراضهم مع علمهم أنها لا تجوز‏.‏

حتى أني رأيت رجلاً من أهل الخير والتعبد أعطاه رجل مالاً ليبني به مسجداً فأخذه لنفسه وأنفق عوض الصحيح قراضة‏.‏

فلما احتضر قال لذلك الرجل‏:‏ اجعلني في حل فإني فعلت كذا وكذا‏.‏

ونرى أقواماً يتركون الذنوب لبعدهم عنها فقد ألفوا الترك وإذا قربوا منها لم يتمالكوا‏.‏

وفي الناس من هذه الفنون عجائب يطول ذكرها‏.‏

وقد علمنا أن خلقاً من علماء اليهود كانوا يحملون ثقل التعبد في دينهم فلما جاء الإسلام وعرفوا صحته لم يطيقوا مقاومة أهوائهم في محور رياستهم‏.‏

وكذلك قيصر فإنه عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدليل ثم لم يقدر على مقاومة هواه وترك ملكه‏.‏

فالله الله في تضييع الأصول‏!‏ ومن إهمال سرح الهوى‏.‏

فإنه إن أهملت ماشية نفشت في زروع التقى‏.‏

وما مثل الهوى إلا كسبع في عنقه سلسلة فإن استوثق منه ضابطه كفه‏.‏

وربما لاحت له شهواته الغالبة عليه فلم تقاومها السلسلة فأفلت‏.‏

على أن من الناس من يكف هواه بسلسلة ومنهم من يكفه بخيط فينبغي للعاقل أن يحذر شياطين الهوى وأن يكون بصيراً بما يقوى عليه من أعدائه وبمن يقوى عليه‏.‏

  فصل تجارب مع الناس

من أعظم الغلط الثقة بالناس والاسترسال إلى الأصدقاء‏.‏

فإن أشد الأعداء وأكثرهم أذى الصديق المنقلب عدواً لأنه قد اطلع على خفي السر قال الشاعر‏:‏ احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة فلربما انقلب الصديق فكان أعم بالمضرة واعلم أن من الأمر الموضوع في النفوس الحسد على النعم أو الغبطة وحب الرفعة فإذا رآك من يعتقدك مثلاً له وقد ارتقيت عليه فلا بد أن يتأثر وربما حسد‏.‏

فإن قلت‏:‏ كيف يبقى الإنسان بلا صديق قلت لك أتراك ما تعلم أن المجانس يحسد وأن أكثر العوام يعتقدون في العالم أنه لا يتبسم ولا يتناول من شهوات الدنيا شيئاً فإذا رأوا بعض انبساطه في المباح هبط من أعينهم‏.‏

لا بل والله ما تصح المعاشرة مع النفس لأنها متلونة‏.‏

وليس إلا المداراة للخلق والاحتراز منهم واتخاذ المعارف من غير طمع في صديق صادق‏.‏

فإن ندر فيكن غير مماثل لأن الحسد إليه أسبق‏.‏

وليكن مرتفعاً عن رتبة العوام غير طامع في نيل مقامك‏.‏

وإن كانت معاشرة هذا لا تشفي لأن المعاشرة ينبغي ان تكون بين العلماء للمجانس فلزمهم من الإشارات في المخالطة ما تطيب به المجالسة ولكن لا سبيل إلى الوصال‏.‏

ومثل هذه الحال أنك إن استخدمت الأذكياء عرفوا باطنك وإن استخدمت البله انعكست مقاصدك‏.‏

فاجعل الأذكياء لحوائجك الخارجة‏.‏

والبله لحوائجك في منزلك لئلا يعلموا أسرارك‏.‏

واقنع من الأصدقاء بمن وصفته لك ثم لا تلقه إلا متدرعاً درع الحذر ولا تطلعه على باطن يمكن أن يستر عنه وكن كما يقال عن الذئب‏:‏ ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخى الأعادي فهو يقظان هاجع فصل علماء الدنيا رأيت نفراً ممن أفنى أوائل عمره وريعان شبابه في طلب العلم يصبر على أنواع الأذى وهجر فنون الراحات أنفقه من الجهل ورذيلته وطلباً للعلم وفضيلته‏.‏

فلما نال منه طرفاً رفعه عن مراتب أرباب الدنيا ومن لا علم له إلا بالعاجل ضاق به معاشه أو قل ما ينشده لنسفه من حظوظ‏.‏

فسافر في البلاد يطلب من الأرذال ويتواضع للسفلة وأهل الدناءة والمكاس وغيرهم‏.‏

فخاطبت بعضهم وقلت‏:‏ ويحك أين تلك الأنفة من الجهل التي سهرت لأجلها‏.‏

وأظمأت نهارك بسببها فلما ارتفعت وانتفعت عدت إلى أسفل سافلين‏.‏

أفما بقي عندك ذرة من الأنفة تنبو به عن مقامات الأرذال‏.‏

ولا معك يسير من العلم يسير بك عن مناخ الهوى‏.‏

ولا حصلت بالعلم قوة تجذب بها زمام النفس عن مراعي السوء‏.‏

على أنه يبين لي أن سهرك وتعبك كأنهما كانا لنيل الدنيا‏.‏

ثم إني أراك تزعم أنك تريد شيئاً من الدنيا تستعين به على طلب العلم فاعلم أن التفاتك إلى نوع كسب تستغني به عن الأرذال أفضل من التزيد في علمك‏.‏

فلو عرفت ما ينقص به دينك لم تر ف ما قد عزمت عليه زيادة بل لعله كله مخاطرة بالنفس وبعيد أن تقنع بعد شروعك في هذا الأمر بقدر الكفاف وقد علمت ما في السؤال بعد الكفاف من الإثم‏.‏

وأبعد منه أن تقدر على الورع في المأخوذ‏.‏

ومن لك بالسلامة والرجوع إلى الوطن‏.‏

وكم رمى قفر في بواديه من هالك‏.‏

ثم ما تحصله يفنى ويبقى منه ما أعطى وعيب المتقين إياك واقتداء الجاهلين بك‏.‏

ويكفيك أنك عدت على ما علمت من ذم الدنيا بشينه إذ فعلت ما يناقضه خصوصاً وقد مر أكثر العمر‏.‏

ومن أحسن فيما مضى يحسن فيما بقي‏.‏

  فصل التخطيط لتحصيل العلوم النافعة

رأيت الشره في تحصيل الأشياء يفوت الشره عليه مقصوده‏.‏

وقد رأينا من كان شرهاً في جمع المال فحصل له الكثير منه وهو مع ذلك حريص على الازدياد‏.‏

ولو فهم علم أن المراد من المال إنفاقه في العمر فإذا أنفق العمر في تحصيله فات المقصودان وكم رأينا من جمع المال ولم يتمتع به فأبقاه لغيره وأفنى نفسه كما قال الشاعر‏:‏ كدودة القز ما تبنيه يهدمها وغيرها بالذي تبنيه ينتفع وكذلك رأينا خلقاً يحرصون على جمع الكتب فينفقون أعمارهم في كتابتها وكدأب أهل الحديث ينفقون الأعمار في النسخ والسماع إلى آخر العمر ثم ينقسمون‏.‏

فمنهم من يتشاغل بالحديث وعلمه وتصحيحه ولعله لا يفهم جواب حادثة ولعل عنده للحديث - أسلم سالما الله - مائة طريق‏.‏

وقد حكي لي عن بعض أصحاب الحديث أنه سمع جزء بن عرفة عن مائة شيخ وكان عنده سبعون نسخة‏.‏

ومنهم من يجمع الكتب ويسمعها ولا يدري ما فيها من صحة حديثها ولا من فهم معناها فتراه يقول الكتاب الفلاني سماعي وعندي له نسخة والكتاب الفلاني والفلاني فلا يعرف علم ما عنده من حيث فهم صحيحه من سقيمه‏.‏

وقد صده اشتغاله بذلك عن المهم من العلم فهم كما قال الحطيئة‏:‏ زوامل للأخبار لا علم عندها بمثقلها إلاّ كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا بأوساقه أوراح في الغرائر ثم ترى منهم من يتصدر بإتقانه للرواية وحدها فيمد يده إلى ما ليس من شغله فإن أفتى أخطأ وإن تكلم في الأصول خلط‏.‏

ولولا أني لا أحب ذكر الناس لذكرت من أخبار كبار علمائهم وما خلطوا ما يعتبر به ولكنه لا يخفى على المحقق حالهم‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ أليس في الحديث منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا‏.‏

قلت‏:‏ أما العالم فلا أقول له اشبع من العلم والا اقتصر على بعضه‏.‏

بل أقول له‏:‏ قدم المهم فإن العاقل من قدر عمره وعمل بمقتضاه وإن كان لا سبيل إلى العلم بمقدار العمر غير أنه يبني على الأغلب‏.‏

فإن وصل فقد أعد لكل مرحلة زاداً وإن مات قبل الوصول فنيته تسلك به‏.‏

فإذا علم العاقل أن العمر قصير وأن العلم كثير فقبيح بالعاقل الطالب لكماله الفضائل أن يتشاغل مثلاً بسماع الحديث ونسخه ليحصل كل طريق وكل رواية وكل غريب‏.‏

وهذا لا يفرغ من مقصوده منه في خمسين سنة خصوصاً إن تشاغل بالنسخ‏.‏

ثم لا يحفظ القرآن‏.‏

أو يتشاغل بعلوم القرآن ولا يعرف الحديث‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فدبر لي ما تختار لنفسك‏.‏

فأقول‏:‏ ذو الهمة لا يخفي من زمان الصبا‏.‏

كما قل سفيان بن عيينة‏:‏ قال لي أبي - وقد بغت خمس عشرة سنة - إنه قد انقضت عنك شرائع الصبا فاتبع الخير تكن من أهله فجعلت وصية أبي قبلة أميل إليها ولا أميل عنها‏.‏

كما قال سفيان بن عيينة‏:‏ قال لي أبي - وقد بلغت خمس عشرة سنة - إنه قد انقضت عنك شرائع الصبا فاتبع الخير تكن من أهله فجعلت وصية أبي قبلة أميل إليها ولا أميل عنها‏.‏

ثم قبل شروعي في الجواب أقول‏:‏ ينبغي لمن له أنفة أن يأنف من التقصير الممكن دفعه عن النفس‏.‏

فلو كانت النبوة مثلاً تأتي بكسب لم يجز له أن يقنع بالولاية‏.‏

أو تصور أن يكون مثلاً خليفة لم يحسن به أن يقتنع بإمارة‏.‏

ولو صح له أن يكون ملكاً لم يرض أن يكون بشراً‏.‏

والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن لها في العلم والعمل‏.‏

وقد علم قصر العمر وكثرة العلم فيبتدىء بالقرآن وحفظه وينظر في تفسيره نظراً متوسطاً لا يخفى عليه بذلك منه شيء‏.‏

وإن صح له قراءة القراءات السبعة وأشياء من النحو وكتب اللغة وابتدأ بأصول الحديث من حيث النقل كالصحاح والمسانيد والسنن ومن حيث عليم الحديث كمعرفة الضعفاء والأسماء فلينظر في أصول ذلك‏.‏

وقد رتبت العلماء من ذلك ما يستغني به الطالب عن التعب‏.‏

ولينظر في التواريخ ليعرف ما لا يستغني عنه كنسب الرسول صلى الله عليه وسلم وأقاربه وأزواجه وما جرى له‏.‏

ثم ليقبل على الفقه فلينظر في المذهب والخلاف وليكن اعتماده على مسائل الخلاف فلينظر في المسألة وما تحتوي عليه فيطلبه من مظانه كتفسير آية وحديث وكلمة لغة‏.‏

ويتشاغل بأصول الفقه وبالفرائض وليعلم أن الفقه عليه مدار العلوم‏.‏

ويكفيه من النظر في الأصول ما يستدل به على وجود الصانع فإذا أثبته بالدليل وعرف ما يجوز عليه مما لا يجوز وأثبت إرسال الرسل وعلم وجوب القبول منهم فقد احتوى على المقصود من علم الأصول‏.‏

فإن اتسع الزمان للتزيد من العلم فليكن من الفقه فإنه الأنفع‏.‏

ومهما فسح له في المهل فأمكنه تصنيف في علم فإنه يخلف بذلك خلفه خلفاً صالحاً‏.‏

ثم يعلم أن الدنيا معبرة فيلتفت إلى فهم معاملة الله عز وجل فإن مجموع ما حصله من العلم يدله عليه‏.‏

فإذا تعرض لتحقيق معرفته ووقف على باب معاملته فقل أن يقف صادقاً إلا ويجذب إلى مقام الولاية‏.‏

ومن أريد وفق‏.‏

وإن الله عز وجل أقواماً يتولى تربيتهم ويبعث إليهم في زمن الطفولية مؤدباً ويسمى العقل‏.‏

ومقوماً ويقال له الفهم ويتولى تأديبهم وتثقيفهم ويهيء لهم أسباب القرب منه‏.‏

فإن لاح قاطع قطعهم عنه حماهم منه وإن تعرضت بهم فتنة دفعها عنهم‏.‏

فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم ونعوذ به من خذلان لا ينفع معه اجتهاد‏.‏

  فصل نضح السرائر

إن للخلوة تأثيرات تبين في الجلوة كم من مؤمن بالله عز وجل يحترمه عند الخلوات فيترك ما يشتهي حذراً من عقابه أو رجاء لثوابه أو إجلالاً له فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عوداً هندياً على مجمر فيفوح طيبه فيستنشقه الخلائق ولا يدرون أين هو‏.‏

وعلى قدر المجاهدة في ترك ما يهوى تقوى محبته أو على مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطيب ويتفاوت تفاوت العود‏.‏

فترى عيون الخلق تعظم هذا الشخص وألسنتهم تمدحه ولا يعرفون لم‏.‏

ولا يقدرون على وصفه لبعدهم عن حقيقة معرفته‏.‏

وقد تمتد هذه الأرابيح بعد الموت على قدرها فمنهم من يذكر بالخير مدة مديدة ثم ينسى‏.‏

ومنهم من يذكر مائة سنة ثم يخفي ذكره وقبره‏.‏

ومنهم أعلام يبقى ذكرهم أبداً‏.‏

وعلى عكس هذا من هاب الخلق ولم يحترم خلوته بالحق‏.‏

فإنه على قدر مبارزته بالذنوب وعلى مقادير تلك الذنوب يفوح منه ريح الكراهة فتمقته القلوب‏.‏

فإن قل مقدار ما جنى قل ذكر الألسن له بالخير وبقي مجرد تعظيمه‏.‏

وإن كثر كان قصارى الأمر سكوت الناس عنه لا يمدحونه ولا يذمونه‏.‏

ورب خال بذنب كان سبب وقوعه في هوة شقوة في عيش الدنيا والآخرة وكأنه قيل له‏:‏ إبق بما آثرت فيبقى أبداً في التخبيط‏.‏

قال أبو الدرداء رضي الله عنه‏:‏ إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر‏.‏

فتلمحوا ما سطوته واعرفوا ما ذكرته‏.‏

ولا تهملوا خلواتكم ولا سرائركم فإن الأعمال بالنية والجزاء على مقدار الإخلاص‏.‏